14 Nov
14Nov


نورهــــان كاهنــــــة تكتب: 

في الثّالث عشرة من نوفمبر عام 1974، وقف الزّعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، أو "أبو عمّار" -كما يحبّذ أنصار الثورة الفلسطينيّة تلقيبه - بزيّه العسكري وكوفيّة بيضاء وسوداء - سُرعان ما تحوّلت إلى هويّة ورمز لمقاومي الاحتلال- أمام منبر الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة ليلقي خطبة حفظ التّاريخ مقامها وما قيل فيها، حيثُ افتتحها ثمّ قال:" … جئتكم يا سيادة الرئيس وبندقيّة الثّائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي، لا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي، لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي،…" فـأيّــــة بندقــيّــــة أتـــى بهــــــا أبـــا عمّــــار إلــى الأمــم المتّحـــدة؟ ومـا كــان ليحــدُث إن اُسقـط غصــن الزّيتــون مــن يـــد الفــلسطينـــيّ؟ 

بعد ستّة وعشرون سنة من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين سنة 1948، وقف الزّعيم الفلسطيني الرّاحل، ياسر عرفات، في قاعة الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة ليكون بذلك أوّل زعيم –بدون دولة- يُلقي خطبة في مقرّ الأمم المتّحدة. نعم! جاء أبا عمّار من أرض السّلام إلى منظّمة السّلام باحثا عن السّلام باعتباره رئيسا وزعيما لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة والممثّل الشّرعي والوحيد لشعب سُلب وطنه بعد أن تآمرت بعض القوى على اسقاط دولته فافتكاك أرضه، لكنّه جاء بغصن زيتون إن اُسقط تُرفع عوضهُ البندقيّات.

لعلّ حدث دعوة، أبو عمّار، للحضور والاستماع إلى محادثات السّلام المتمحورة بشأن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي التّي ترعاها "الامم المتّحدة" بحضور دولي كثيف، شكّل احدى أهمّ المنعرجات التّي مرّت بها القضيّة الفلسطينيّة؛ فهذه المنظّمة الدّولية -أي الامم المتحدّة- منذ تأسيسها سنة 1945 -كمخرج لمؤتمر دومبارتون أوكس - أصبحت الرّاعي الاوّل للسلاّم في العالم باعتبار أنّها وكافّة الدّول الأعضاء –وعددها حاليا 193- تسعى نحو تحقيق العديد من "الأهداف السّامية" أهمّها فضّ النّزاعات التي قد تشكّل خطرا على السّلم والأمن الدّوليين ومنع استخدام القوّة وتحقيق السّلام العادل بين دول العالم حسب ما جاء في ديباجتها: " نحن شعوب الأمم المتّحدة وقد ألينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التّي في خلال جيل واحد جلبت على الانسانيّة مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسيّة للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرّجال والنّساء والصّغار والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التّي يمكن في ظلّها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدّولي وأن ندفع بالرّقي الاجتماعي قدما وأن نرفع مستوى الحياة في جوّ من الحريّة أفسح".

وإثر تأسيسها مباشرة، وُضعت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة أمام اختبار صعب وهو فضّ النزّاع المسلّح الفلسطيني الاسرائيلي الذّي تعود جذوره إلى سنة 1897 والخروج بحلّ سلميّ يُرضي الطرفين المتنازعين وذلك بناءا على مطلب بريطانيا التّي قامت برفع القضيّة الفلسطينيّة إلى الأمم المتّحدة مع تصاعد الهجمات الاسرائيليّة ضدّ قوّاتها المتواجدة في الأراضي الفلسطينية. وبناءا على ذلك، انطلقت بتاريخ 28 أفريل  1945 جلسات أشغال الجمعيّة  العامّة الخاصّة بقضيّة فلسطين  لتتواصل لسنتين متتاليتين عقبهما قرار بتأليف "لجنة الامم المتحدة الخاصّة بفلسطين" (UNSCOP) تمّت المصادقة عليه في 15 ماي 1947  بأغلبيّة 45 صوتا مقابل 5 أصوات عربيّة رافضة إلى جانب تركيا وباكستان.

هذه اللجنة الدّولية ضمّت 11 عضوا عن 11 دولة -وهي يوغسلافيا والبيرو وإيران والهند وكندا والنّمسا وغواتيمالا والسويد والأوروغواي وتشيكوسلوفاكيا وهولندا- قاموا بزيارة فلسطين في 16 جوان 1947، وقد صحب هذه الزيارة اضراب عام بكلّ المدن الفلسطينيّة وكذلك العواصم العربيّة استجابة لدعوة الهيئة العربيّة العليا التّي قاطعت اللّجنة بتعلّة تعارض مبادئها مع المبادئ التأسيسيّة لمنظّمة الامم المتّحدة.

وفي 08 سبتمبر 1947 أصدرت اللجنة تقريرها الخاصّ والذّي ضمّنته 12 توصية تمهيديّة أهمّها انهاء الانتداب البريطاني على فلسطين واستقلالها وإعلان فترة انتقاليّة تحت وصاية الامم المتّحدة إلى جانب التعهدّ بوقف أعمال العنف واستخدام الوسائل السلميّة في حلّ النزاعات وحماية الأقليّات وضمان الحقّ في الدّخول إلى الأراضي المقدّسة كما الحفاظ على الوحدة الاقتصاديّة لفلسطين. 

وفيما يخصّ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي انقسم أعضاء اللجنة إلى أغلبية بسبعة أصوات (كندا وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا وهولندا والبيرو والسويد والأوروغواي) نادت بتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية وأخرى عربيّة على أن تخضع القدس إلى وصاية دوليّة، مقابل 3 أصوات فقط (الهند وإيران ويوغوسلافيا) نادت بتأسيس دولة فيدراليّة مشتركة مكونة من كيان عربي وآخر يهودي تكون القدس عاصمة لها. وفيما دعمت الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكذلك الاتّحاد السوفياتي إلى جانب الطرف الاسرائيلي قرار التقسيم، أصدرت جامعة الدّول العربية بيانا رافضا لكلا المقترحين باعتبار "مخالفتهما لكلّ المطالب العربيّة والميثاق القومي فضلا عن مخالفتهما ميثاق الامم المتّحدة وجميع مبادئ الحقّ والعدل". 

وفي 29 نوفمبر 1947 صادقت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة على قرار تقسيم فلسطين بعد عمليّة تصويت شاركت فيها الدّول الأعضاء –وعددها آنذاك 56 دولة- ولئن امتنعت 10 دول عن التصويت وعارضت 13 دولة هذا المخططّ، فإنّ الأغلبيّة المتمثّلة في 33 دولة صوّتت لفائدة هذا المخطّط الذّي يقضي بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيمها إلى كيانات ثلاث: كيان عربي يمثّل 42.3% من فلسطين (11.000 كم²) وكيان يهودي يمثّل 57.7% من مساحة فلسطين (15.000 كم²) وكيان ثالث يضمّ القدس وبيت لحم ويكون تحت وصاية دوليّة.

ومع بداية مغادرة القوّات البريطانيّة للأراضي الفلسطينيّة –تنفيذا لما جاء في قرار التقسيم- شرعت القوّات الاسرائيلية في شنّ عمليّات عسكريّة توسعيّة شملت الأراضي الفلسطينيّة متجاوزة بذلك الحدود الجغرافيّة التّي رسمها لها قرار التقسيم فكانت تُسيطر على كلّ الأراضي التّي تنسحب منها القوّات البريطانيّة ممّا أدّى إلى ردّة فعل عربية عبر "حرب الطرق" التّي شنّتها قوّات جيش التحرير العربي -المتكوّن من قوّات فلسطينيّة وأخرى عربيّة متطوّعة-  على الطرق الرابطة بين المستوطنات اليهوديّة وتمكّنوا على اثرها من قطع الطريق الرئيسيّة الرابطة بين تل أبيب وغرب القدس وعزلها ما جعل أكثر من 16% من اليهود في حالة حصار في فلسطين،  ردّت عليه اسرائيل بهجوم مضادّ شنته بتاريخ 9 أفريل 1948 على قرية دير ياسين بالقدس، حيث هرعت عصابة الأرغون وشتيرن بتعزيزات من قيادة الهاجاناه الصهيونية إلى الهجوم على القرية قصد تفزيع الأهالي وترحيلهم للسيطرة على الأرض، لكنّ هذا الهجوم سرعان ما تحوّل إلى أعنف المجازر التّي ارتكبت في فلسطين والعالم حيث راح ضحيّتها 360 انسانا –والغريب- أنّ هذا الهجوم جاء بعد فترة قصيرة من توقيع معاهدة السلام بين اليهود  وأهالي قرية دير ياسين الذّين أبدوا رغبتهم في التعايش السّلمي ورفضوا الدخول في حرب إلى جانب القوّات العربيّة ضدّ اليهود.

ساهمت كلّ هذه الظروف مجتمعة في حرب ماي 1948 -التّي تعرف بالنكبة- والتّي شنتها الدّول العربيّة (مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق) على اسرائيل بعد الاعلان الرسمي الأمريكي بقيام دولة اسرائيل على الأراضي الفلسطينية وامتدادها على 78% من مساحة الأرض مخالفة بذلك ما جاء في قرار التقسيم الاممي ومن بعدها حرب 1956 وشنّ العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي والإسرائيلي على قطاع غزّة اثر قرار رئاسي مصري يقضي بتأميم قناة السويس وانتهت بخسائر للقوات الاسرائيلية ونجاح مصر في استعادة قناة السويس.

وفي الذّكرى السابعة لحرب العدوان الثلاثي والتّي تسمّى "عيد النصر"، دعى الرئيس المصري جمال عبد النّاصر إلى عقد مؤتمر القمّة العربي الأول الذّي انتظم في القاهرة من 13-17 جانفي 1964 وأسسّ لظهور منظّمة التحرير الفلسطينيّة في 28 ماي 1964، ورئيسها أحمد الشقيري، التّي شكّلت جبهة لتحرير فلسطين عبر الكفاح المسلّح وأصبحت الممثّل الشّرعي والوحيد للفلسطينيين في المحافل العربيّة والدّولية.

انتقلت رئاسة المنظّمة إلى الزّعيم الراحل، ياسر عرفات، سنة 1969 ليسير بها إلى الامم المتّحدة بعد 6 سنوات تبنّى خلالها مبدأ التعايش السلمي مع العدّو الاسرائيلي وهو ما اعتبره البعض خروجا عن مبادئ المنّظمة التّي جاءت "إيمانا بحقّ الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المقدس فلسطين، وتأكيدا لحتميّة معركة تحرير الجزء المغتصب  منه وعزمه واصراره على ابراز كيانه الثوري الفعّال وتعبئة طاقاته وامكانيّته وقوّاه الماديّة والعسكريّة والروحيّة". 

وقد تبنّت المنظّمة في هذا العهد الجديد –أي فترة رئاستها من قبل ياسر عرفات- برنامجا من عشر نقاط يسمح بالتوصّل إلى حلول وسط مع اسرائيل بهدف اعادة السيطرة الفلسطينيّة على كلّ أرض فلسطين أي حسب ما جاء في قرار التقسيم، وهو ما منحها اعترافا رسميّا من الامم المتّحدة، التّي كانت معظم جلساتها تدون بحضور الجانب الاسرائيلي فقط. لكن بدعوة من دول عدم الانحياز واعتبارا للاعتراف العربي الرسمي بشرعيّة منظّمة التحرير، تمّت دعوة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات للحضور والاستماع للمحادثات الخاصّة بالقضيّة الفلسطينيّة، فلبّ عرفات الدّعوة وجاء إلى مقرّ الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة يحمل بيد بندقيّة الثائر وبيده الأخرى غصن الزّيتون:

فأمّا بندقيّة الثائر، فهي رمز للثورة كما للمقاومة الفلسطينيّة، كما اعتراف باطنيّ من المنظّمة بالتنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة التّي تصرّ على رفض مبدأ التفاوض على غرار تنظيم "أيلول الأسود" الذّي كثّف هجوماته ضدّ الجانب الاسرائيلي في تلك الفترة. كما تروي هذه العبارة سنوات الكفاح الفلسطيني سوى في وجه الانتداب البريطاني إلى جانب الامتداد الاستيطاني وتحمل في طيّاتها ما رواه التاريخ من حروب –عرضنا تفاصيلها- صمد في وجهها الشعب الفلسطيني.

وأمّا غصن الزّيتون الأخضر، فهو رمز للسلّام حتّى أنّ منظّمة الامم المتّحدة -بوصفها لذاتها بأنها منظّمة تسعى لإحلال السلام في العالم- اتّخذته رمزا وشعارا لها حوّطت به الكرة الأرضيّة لإيمانها برمزيته المقدّسة في كلّ الثقافات والمعتقدات في العالم والتّي تتمحور في السّلام. هذه الرمزيّة التّي اكتسبها غصن الزّيتون قد تعود جذورها إلى قرون عدّة وتحديدا إلى قصّة الحمامة التّي قادت النبيّ نوح إلى برّ السّلام بعد أن بشرّته بانتهاء الطوفان بحملها غصن زيتون.

وأمّا إشارته إلى أنّ غصن الزّيتون "أخضر" فهو يؤكد على دور الامم المتّحدة في رعاية عمليّة السّلام التّي تعتبر طريقا جديدا لحلّ صراع الحرب في أرض الزّيتون والسّلام، فالأرض ارتوت وأغصان الزّيتون اشتدّت –بعد أن خرّبتها قوّات الاحتلال- وارتوت بدماء أبناء الوطن فاخضرت وجاء بها ياسر عرفات إلى الامم المتّحدة لعلّه يتركها هناك –لتينع- ويعود بالسّلام.

هذه كانت رحلة الزعيم إلى الامم المتّحدة، رحلة ياسر عرفات السياسي الحالم بالسلّام ورحلة "أبو عمّار" المنتفض على اعتداءات العدّو الإسرائيلي ومرّت السّنوات والسنوات ولا غصن الزيتون أينع ولا حرب الميدان انتهت. فهل ترعى منظمّة السلام حقا عمليّات السلام؟

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة