نـــورهــان كـاهنــــــة تكتب:
في سواحل جزيرة قرقنة وعلى بعد خمسة أميال بحريّة من يابستها لفظت أمنيات أنفاسها وشربت أحلام من ماء البحر فردّها جثثا هامدة يبكيها أهلها وبني وطنها، وطن ظلّت دولته تُكافحهم فركبوا أمواجه فرّا منها لكنّهم سُلبوا في كلتا الحالتين، فقد سُلبت حقوقهم أولّا وها قد سُلبت أنفاسهم حديثا.
تتكاتف الجهود والأيادي وتتواصلُ منذ صبيحة يوم الأحد 03 جوان عمليّات انتشال جثث لضحايا غرق أحد المراكب في سواحل جزيرة قرقنة كان على متنه ما يزيدُ عن 180 مواطنا تونسيّا –إلى جانب بعض الجنسيات الأخرى- إختاروا هجر الوطن –بطريقة غير شرعيّة- بحثا عن حقوق سلبتهم إيّاها دولتهم -بطريقة غير شرعيّة- فأردتهم عاطلين عن العمل معطّلين على تحقيق أحلامهم وطموحاتهم واليوم تُشرف على عمليّة انتشالهم من أعماق دفعتهم إليها بكيانها. فهل كان ما حدث ليحدُث لو سبق وأشرفت هذه الدّولة على انتشالهم من فقر وبطالة وتهميش ينخرُ مستقبلهم؟ أكان الوطن سيفقدُ العشرات من أبناءه لو تبنّت دولتهم أحلامهم وطموحاتهم؟ لكن هيهات !
نعم … "ميتتان لرجل واحد" !
ثلاث وستّون جثّة أبى القدر أن يلتحق أصحابها بسواحل الأمل فعادوا إلى وطنهم –حتّى قبل أن يتجاوزوا حدوده- محمليّن على الأكتاف في صناديق خشبيّة كتلك المراكب التّي توسّلوها بحثا عن واقع إجتماعيّ مغاير لواقعهم: واقع لم يستسلم لاحتجاجاتهم ولا لان لأصواتهم ونداءات إستغاثاتهم، فلعلّ فقط نفر من بينهم خرج –ولو في مناسبة واحدة- مُناديا بالتشغيل والتّنمية ! لكنّهُ صنّف وقتها في القائمة السّوداء لأعداء الدّولة ومشاغبيها بالرّغم من أنّ مطالبه لم تتجاوز تلك الحقوق التّي يكفلها له دستورها.
إنّ لجوء شباب تونس إلى مغادرتها –لا سيما في السنّوات الأخيرة- ليس إلا ردّة فعل تجاه ما يعانونه من تهميش وفقر وبطالة وهو ما تعكسه احصائيات رسميّة صادرة عن وزارة الدّاخليّة كشفت عن إحباط 6000 محاولة هجرة غير شرعيّة في الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2018 و900 أخرى في النصف الأول فقط من شهر رمضان أي إحباط معدّل 60 محاولة هجرة غير شرعيّة يوميّا.
هذا الرقم المفزع لم نشهد له نظيرا إلا مع تأجج ثورة 17-14 سنة 2011 لكن نجدُ أنّه يرتفع نسبيّا مع تطوّر منسوب الإحتجاجات الاجتماعيّة التّي تطوّرت بدورها من 4960 تحرّكا سنة 2015 إلى 8000 تحرّكا احتجاجيا في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2017 لتبلغ ذروتها في جانفي 2018 وبالرغم من اختلاف مواقع اندلاعها فإنّ مطالبها ذاتها: العمل والكرامة.
في أعماق البحار كما في قمم الجبال، يموت الشباب
في الثالث من جوان سبع عشرة وألفين فقد الحياة شابٌ صعد الجبال بحثا عن لقمة العيش فقبضته يدُ الإرهاب -كما قبضت أخاه من قبله- إنّه الشاب خليفة السّلطاني ! أمّا في الحاضر فقبضت الأمواج أرواح عشرات الشباب في رحلة غير شرعيّة بحثا عن حقوقهم المشروعة بعد أن قبضت العشرات في حادثة مشابهة في أكتوبر الماضي مع اصطدام مركب "حرّاقة" بخافرة بحريّة تابعة للجيش الوطني.
مركب قرقنة المنكوب وغيره من مراكبها ومراكبُ جهات البلاد تقبضُ أنفاسا سُلبت حقوقها وأنهكها واقعها بعد أن خذلتها ثورتها وماهذا إلا نفي لبيت شاعر الوطن الذّي قال فيه "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر" فمن ركبها ليس إلا باحثا عن الحياة في وطن تعالت فيه سلطة الدّولة على سلطة القدر فلا استجابت هي ولا استجاب القدر فقًبض الشباب في قمم الجبال وأعماق البحار.