نـــورهـــان كـاهـنــــة تكتب:
للموت -كالحياة- ألحانٌ، وللأحياء ألحان يعزفونها في "كورتاج" الموتى فيُهجّى وطنٌ ويُرثى -على وقعها- أبناؤه. وطنٌ تحوّلت مآسيه إلى مقطوعاتٍ موسيقيّة يرتفع صداها في ملاعب رياضية ليس أملا في أن يخترق ضجيجها المقابر فتلفظ أجسادا تحتويها، بل أملا في أن تخترق مسامع "أصحاب السلطة" فيصلُون ب "كورتاج الموت" إلى نهاية الطريق.
لعلّ اُغنية "كورتاج الموت" (Cortège de la mort) التّي صدرت في ديسمبر الماضي عن خليّة أحبّاء "النّجم الرياضي الساحلي" -والتّي تُعرف ب "البريقاد روج" (Brigade Rouge) أو الكتيبة الحمراء- رفعت الستار عن فنّ كثيرا ما ردّدتهُ حناجر المشجّعين في مدرّجات الملاعب؛ فنٌّ لئن نُظم للتعبير عن فخر الانتماء لنادٍ رياضيّ والولاء لهُ والدّفاع عنه، فإنّه تجاوز –في مضمونه- راية ذاك النّادي وألوانه، وأصبح حمّالا لقضايا وطنيّة، فتزاوجت أهازيجُ الرياضة بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي لتهب الحياة إلى جنين فنيّ وُلد "وسيطا" بين المشجعّين –الذّين هم في الأصل مواطنون- وأصحاب السّلطة السياسيّة لعلّهم ينعطفون بسياستهم عن مُنعرجات باتت تُهدّد الوطن وأبناؤه.
موتٌ التهـم، فألهــم...
منعرجاتٌ شبيهةٌ بمُنعرج "عمدون" الخطير الذّي غيّب 29 شابّا وشابّة تُونسيّون عن الحياة بعد أن التهمهم شبح الموت وسارُوا إلى مقابرهم جُثثا هامدة في "كورتاجٍ" ألهم بؤسه شبابٌ مُبدعٌ فاستنبطوا من أنين الحُزن ألحانا لمعزوفة قيل فيها "... بلادْ المُوتْ كُلّ يومْ تِسمعْ دِفينةْ، مها في الوادْ، البارح كارْ وسْفينة... اتّعلمْ عُوم شُكون قتْلُوا يا حُكُومةْ، شكُون المسؤول عإلّي ماتُوا في كردونة، آدم مقتُول هاذي حكايةْ مفْهومة، المُوت حقّ علينا أمّا سببْ الكارثةْ إنتُوما".
اُغنيةٌ عُزفت ألحانها وخُطّت كلماتُها واُلقيت، فبدت ك "جنيريك" لسنتين عايش فيهما التّونسيون كوارث اجتماعية-إنسانيّة حمّلوا أصحاب السُّلطة والقرار مسؤوليتها: وذلك انطلاقا من حادثة قتل مُشجّع النّادي الافريقي "عمر العبيدي" (مارس 2018) إثر حضوره مباراة لفريقه شهدت نهايتها مواجهات أمنيّة-جماهيريّـــة عنيفة دُفع به –خلالــها- في وادٍ حتّى "يتّعلم يعوم" ، ثُمّ حادثة موت الرُّضع الخمس عشرة في "مُستشفى الرّابطة" بالعاصمة (مارس 2019) نتيجة جُرعة دواء فاسدة حُقنت لهم وسٌلِّمت –على إثرها- جُثثهم إلى عائلاتهم في "كرادن" ، مُرورا بوفاة طفلة ال 11 سنة "مها القضقاضي" (نوفمبر 2019) التّي جرفتها سُيول الأمطار في طريق عودتها من المدرسة، وكذلك حادثة مقتل الشّاب"آدم بوليفة" في إحدى الملاهي الليليّة في حفلة عيد ميلاده الثّالث والعشرين، إلى حادثة انقلاب حافلة سياحيّة في منطقة "عمدون" من ولاية باجة (ديسمبر 2019) والتّي راح ضحيّتها 29 شابّا وشابّة تونسيّين.
هذه الأغنية لم تكتف بإضفاء لحن حزين على المشاهد والأحداث الدراميّة التّي عايشها التّونسيون في السّنوات الأخيرة، بل مثّلت وسيلة نقد للفعل السياسي والفاعلين السياسيين باعتبارها رسالة واضحة من المشجّعين إلى المسؤولين السياسيين يُحمّلونهم فيها كلّ المسؤوليّة.
وسيــــــطٌ سليــــطٌ:
وهكذا، شكّلت الموسيقى- الرياضيّة وسيطا بين "الكائن الاجتماعي" و "الكائن السياسي"، باعتبار أنّ الموسيقى على اختلاف أنواعها تُمثّل تقنية تواصليّة بين "الأنا" أو "المنتج" أو "الفنّان" الذّي هو –في الحقيقة- مرسلٌ، و "الآخر" الذّي هو متلقٍّ. وبالتّالي، فإنّ هذا الشكل الفنّي يستجيبُ لمعايير "الوساطة" التّي سبق وغاص فيها عالم الاجتماع الأمريكي "مارشال ماكلوهان " (Marshall MucLuhan) في مقالته الشهيرة "الوسيط هو الرّسالة" (The Medium is the Message)، لكنَ يختلفُ هذا الوسيط –الذّي لا يُعدُّ حديثا بل مُستحدثا- عن بقيّة الوسائط الاتصاليّة كالرّاديو والتلفزيون و الصحف والانترنت وغيرها، كما يختلفُ "تأطيرهُ" وتمثيله للأحداث عن بقيّة الأجهزة والوسائط السّابق ذكرها:
فلئن تخضع الوسائط التقليديّة إلى معايير وقواعد تنظيميّة في تعاطيها وتناولها للأحداث بطريقة واعية ومسؤولة، فإنّ "الموسيقى-الرياضية" -كوسيط- لا تخضع بالضرورة إلى مثل تلك المعايير، وهو ما جعلها تبدُو كوسيطٍ سليطٍ لا يُعبّر من خلاله "المرسل" عن غضبه أو أفكاره أو انتقاداته برويّة، بل يضخُّ فيه من التعابير والمصطلحات التّي تبدو أحيانا "بذيئة" أو "غير أخلاقيّة". بتعبير آخر، يتشابه هذا النوع الموسيقي مع طبيعة الأحداث التّي يتناولها في حدّتها وسلاطتها، وبالتّالي فإنّ "العنف اللّفظي" الذّي يتدفّق من هذه الأغاني يعكسُ الأحداث العنيفة التّي يعيشُ على وقعها المجتمع، فالفنّان –في النهاية-هو "كائن اجتماعي" قد يُشكّل جزءا من تلك الأحداث أو قد تُؤثّر فيه بأيّ شكلٍ من الأشكال سواء بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، وهكذا فإنّ التصاقه بالاجتماعي سينعكسُ في منتجاته الابداعيّة أو الفنيّة.
فنٌّ ضدّ السلطة:
وفي حين يُشكّل التصاق "الفنّان" بالاجتماعي إطارا تندرجُ ضمنه خصوصيّة هذا النّوع الموسيقي، فإنّ إقصاءه من الحياة السياسيّة ومؤسّسات صنع القرار والسّلطة يسهم –بدوره- في تشكيل ملامح وطبيعة هذه الأغاني، حيثُ كثيرا ما جسّدت هذه الأغاني علاقة الكرّ والفرّ بين "الكائن الاجتماعي" و "الكائن السياسي" ممثّلا في الأجهزة الأمنيّة وأيضا أعلى أجهزة وهرم في الدّولة كالرؤساء أو الملوك وغيرهم، وذلك ليس على المستوى المحلّي فقط –أي تونس- وإنّما على المستوى العالمي: ففي حين تُغنّي جماهير النّجم الساحلي "... ثورة تعدّاتْ ومازلنا نشُوفوا .. في الإستبداد هانا بْقينا نْسيرُوا..." وتُغنّي جماهير النّادي الإفريقي "غناياتنا... عالحريّة والبلاد إلّى نْساتِنا، عالمظلومين والدّولة إلِّي خلّاتنا ..." وتغنّي جماهير التّرجي التونسي "زادُوا قمعونا وعلى حقُوقْنا واللّه ياوْ مِنعُونا" ، فإنّ صوت جماهير نادي الرّجاء البيضاوي المغربي يعلُو أيضا ليُردّد "فْلوس البلادْ قاعْ كليتُوها، للبرّاني عْطيتُوها Génération قمعتوها .." وهو ما أدّى إلى حملات اعتقال أمنيّة واسعة في صفوفهم إثر إحدى المقابلات، باعتبار أنّ تلك الأغنية تُعتبر إساءة للسّاسة وعلى رأسهم القيادة الملكيّة.
هكذا شكّل هذا النّوع الموسيقي همزة وصل بين الملاعب الرياضيّة و"الفضاء العمومي" السياسي، حيثُ تُعبّر هذه الفئات –من خلاله- على أرائها وأفكارها ومواقفها وقراءاتها وانتقاداتها لعمليّة صنع القرار السياسي، وبالتّالي فإنّها تُعدُّ مظهرا من مظاهر "الاستخدام العلني للعقل" الذّي لا يتجلّى –في المجتمعات الدّيمقراطية- من خلال المشاركة المباشرة في الحوارات أو المناقشات السياسيّة فقط، بل يتجاوزها إلى أشكال تعبيريّة أخرى كالصحافة والفنون والأدب والمسرح وغيرها، حيثُ لكلٍّ طريقته ووسيلته للتعبير عن رأيه ومواقفه الخاصّة التّي تتحقّق -وفقها- سيادته.
وفقا لما سبق، نتلخّصُ إلى أنّ الموسيقى التشجيعيّة الرياضيّة هي أداة تستغّلها الجماهير –الذّين هم في الأصل مواطنون- للمشاركـــة (ولو بطريقــــــة غيــــر مباشــــرة) في النقـــــــاش السياسيّ -الذّي تمّ تغييبهم عنه قسرا- والضغط على السلطة السياسيّة وصانعي القرار، وهو ما يُفسّر القمع الشديد الذّي تتعرضّ له هذه الفئات في الملاعب الرياضية خاصّة في المجتمعات التّي تُعتبر -نسبيّا- استبداديّة والتّي تتراجعُ فيها مؤشرات حريّة الرأي والتعبير، وهو ما يحيلنا إلى السنوات الماضية أي قُبيل "الثورة التونسيّة" حيثُ لم يكُن هذا النوع الموسيقى –في تونس- يطرحُ القضايا أو المشاكل أو التجاوزات السياسيّة باعتبار أنّنا كنّا نعيشُ في كنف نظام استبدادي يقمعُ كلّ المُنتجات الابداعيّة أو الفنيّة والثقافيّة التّي تنقدهُ، وهو ما حاولت الجماهير كسره وتجاوزه في مناسبات عدّة لكنّهُ قوبل بالقمع والبطش والاعتقالات الأمنيّة، وهو ما جعل هذا النوع الموسيقى يتخبّطُ طيلة السنوات البائدة في شراك الجهويّات والانتماءات.
إنّ الموسيقى الرياضية –كغيرها من الأنواع الموسيقيّة الأخرى- يُمكن أن تُشكّل "وسيط" ثقافيّ يُحمّله الفنّان معانٍ ورسائل عديدة تتجاوز "المُتعة" كرغبة يبحثُ المتلقّي عن إشباعها من خلالها –حسب منطق الاستخدامات والإشباعات- لتشمل رغبات أخرى إمّا اجتماعيّة أو اقتصادية أو سياسيّة، باعتبارها أصبحت محملا لأهمّ القضايا الوطنيّة والإقليميّة ومؤشرا من مؤشّرات حريّة الرأي والتعبير.